الفتح الرمضاني في الأخلاق والسلوك ..تابع الدرس الرابع الفتح القلبي
تابع الفتح القلبي
آثار الفتح القلبي :
الأثر الأول : الشعور بالمسكنة والخضوع لله عز وجل . الإمام زين العابدين عليه السلام يقول في مناجاته : ( إلهي لا تؤدبني بعوقبتك ولا تمكر بي في حيلتك من أين لي الخير يا رب ولا يوجد إلاّ من عندك . . .) أول خطوة يخطوها الإمام عليه السلام هي إعلان منتهى المسكنة لله .
إن النظرة التوحيدية مفادها أن حقيقة الممكنات كلها هو الفقر وأن صلب الموجودات كلها هو الحاجة والتذلل لله عز وجل ؛ هذه الحقيقة التي يجب أن لا ننساها والتي يجب أن نتحرك منها ( من أين لي الخير يا رب ) الإمام عليه السلام مثلنا كان له سمع وبصر، بل أين نحن من مقامات زين العابدين عليه السلام ؟!! نحن لا ندري ماذا بين يدي الإمام عليه السلام من الكمالات .
دخل رجل على الإمام الهادي عليه السلام وقد أرسل إليه أحد خلفاء بني العباس "المتوكل " فلما وصل الإمام عليه السلام إلى سامراء التي كانت عاصمة الدولة العباسية ، أنزل ذلك الخليفة الإمام عليه السلام في منزل دوني يسمى خان الصعاليك وهو محل لا يليق بأهل المكانة والجاه فضلاً عن الإمام عليه السلام . فدخل أحد أصحاب الإمام عليه السلام عليه فرأه في تلك الحالة وفي ذلك المكان الذي لا يليق بالإمام عليه السلام فغليته العبرة فبكى فعلم الإمام عليه السلام ما في قلب ذلك الرجل فقال له : تعال وأجلس فمسح على عيني ذلك الرجل فإذا به ينفتح على جنات وأنهار وخدم وحشم لم يشهد له مثيل في دار الدنيا ، أصابته الدهشة فمسح على عينيه مرة أخرى فغابت تلك المناظر ، أحب أن أشير أن تلك المناظر حقيقية . الجنات والأنهار والثمار تحت خدمة الإمام الهادي عليه السلام في الدنيا وقبل الآخرة ؛ إن هذه الجنات التي نطمع أن نصل إليها سرى وعرج إليها الرسول صلى الله عليه وآله في الدنيا وذكر لنا ما رآه . رسول الله صلى الله عليه وآله بلغ من مراحل الكمال أن تكون الجنة بين يديه في الدنيا . زين العابدين عليه السلام الجنة بين يديه في الدنيا وهو يقول ( إلهي لا تؤدبني بعوقبتك ولا تمكر بي في حيلتك . . .) هذا الذي بين يديه كل هذه الكمالات والجمالات لم يزحزحه ذلك ذرة واحدة عن الغفلة عن هذه الحقيقة هذا الذي بلغ ما لم يبلغه الأولون والآخرون إلاّ هو وأهل بيته فهو لا يغفل لحظة واحدة عن فقره إلى الله عز وجل . فكيف بنا الذين لا ندري كيف نجوز الحساب ،لا ندري سنزحزح عن النار أم لا ؟ ولربما إنشاء الله بكرم الله وشفاعة محمد صلى الله عليه وآله سنزحزح عن النار لكن لا ندري متى ؟ هذه أول آثار النظرة التوحيدية وهي أن لا يغفل الإنسان عن فقره الدائم .
الأثر الثاني : أننا وسائر الموجودات لنا رغبات ولنا آمال ولنا تطلعات ولنا إلى السعادة والكمال تشوق واحتراق . نحن لا نكف لحظة واحدة عن أن نتطلع إلى السعادة ، نحن وسائر الموجودات حينما نترجى لذة وسعادة ونفرح بأمر إنما نرجوا ذلك من الله ، ونسأل من الله كل تنهدة حب وشوق ، كل بكاء وتضرع ورجاء إنما نحن نريده من الله ، نحن وسائر الموجودات ليس هناك موجود يحب شيء إلاّ وهو يحب الله . إذا كان في قلبي أو في قلبك أو في قلب موجود من الموجودات دفقة حياة وحركة حياة وإرادة ورغبة فهذه الحياة وهذه الإرادة والرغبة والسعي هي من الله وإن كنا لغرورنا وغفلتنا نتصور أن هذه الأمور هي لدى سائر المخلوقات ، حينما نتحرك لطلب سعادة ولإستجلاب طلب زكي نقي صافي من الفيض والخير والبركة لأنفسنا فإننا لم ولن ولا يتصور ولا يمكن عقلاً وواقعاً وحقيقة أن ننال من هذا الأمر شيء إلاّ ونحن نسأله من الله عز وجل ، لكننا لله جاحدون وبنعمته كافرون !!
نحن نسأله ونحن نريد منه ونحن نترجاه ولكن قلة حيائنا وغفلتنا هي التي تحجب أعيننا النظر ( إلهي ربيتني في نعمك واحسانك صغيراً ونوهت باسمي كبيراً . . وكرمه) هذا الأمر نحن فيه مشتركون ، كلنا فيه سواء كل هذه الموجودات الله رباها وغذاها وأنعم عليها ولا مفر لها من هذا الفقر والاحتياج إلى الله لكن زين العابدين عليه السلام أدرك هذه الحقيقة وغيره غفل عنها - إن شاء الله لا نكون منهم - (معرفتي يا مولاي دلتني عليك ) أنا عرفت وتيقنت يا رب أنني حينما أسأل أمرا وأحتاج إلى شيء فإنني لا أسأله ولا أحصل عليه إلاّ منك . في مدرسة الإمام زين العابدين عليه السلام ينير العقل " القلب " فيصبح القلب متحركا وسائراً تحت ظلال هذه الحقيقة .
الأثر الثالث : التميز بين الحقيقي والخيالي : حين بدء مسيرة العقل والنظر يأخذ القلب والعقل في عملية تردد وتنازع ، القلب في بداية انطلاقته كما في أحوالنا قد عهد أموراً ونشىءعليها وتربى على حالات والعقل والدليل والقرآن ينزعان به إلى حالات أخرى .
القلب رغم أنه قد وثق واطمأن بقول الله ووثق واطمأن بدليل العقل إلا أنه لا يزال فيه ميل وجنوح إلى البقاء في حالة الأنس بما عهده واطمأن إليه . العقل يريد أن ينطلق بالقلب إلى مراحل جديدة فيتردد الإنسان بين سوابق أنسه وبين الأنوار القرآنية النبوية التي يدعمها العقل ، يقبل بها القلب أحياناً ويتراجع عنها أحياناً أخرى وهذا ما يفسر عملية تقلب القلب الإنساني وأهم مرحلة ونقطة إذا اجتازها القلب يكون قد تحقق له الفتح وهو أن يعرف أين حد الخيال من حد الحقيقة .
يكون القلب بين أمرين ؛ الأمور والأشياء والوسائل والمواد التي عهدناها هي الخيال وما عند الله هو الحق أم أن ما بيد الله خيال وما بيد الإنسان والأشياء هو الحق ؟! حسب ما توصلنا إليه قرآناً وعقلاً أن هذا الكمال منطلقه وحقيقته واحدة وهو الله عز وجل . إيماننا مناجاتنا لله ، حديثنا مع الله ، سؤالنا لله سؤال حقيقي سامع بصير قدير كريم هو الله أم أن هذه الأمور آمال وترجيات .
إذا نحن اجتزنا هذه المرحلة وأطمأنت قلوبنا ولم يعد لدينا شك بأن الله عز وجل ولينا وكفيلنا ربنا سميع ، بصير ، مجيب قال تعالى : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) ( 186) البقرة.
إذا نحن تحركنا في هذه المرحلة حين ذاك سوف يتكشف لنا أن ما نتحرك فيه مع الأشياء ومع سائر الأشياء يجب أن يكون حركة مع الله بمعنى أن تعاملنا مع كل شيء آخر إنما ننظر فيه إلى آثار تلك الحركة مع الله وأن درجة الكمال والفوز والفلاح والسعادة في أعمالنا إنما هو بمقدار ما فيها من صفاء مع الله .
عندما نتعامل مع الأشياء فإن هناك درجة من درجات الحجاب وكلما كانت نظرتك إلى الله في جميع الأشياء كلما كان الصفاء في ذلك الطلب أكثر - إن شاء الله- نكون قد بينا بعض آثار النظرة العقلية الصحيحة السليمة إذا امتزجت بالأعمال العبادية الصحيحة وكيف تساهم في نشوء الفتح القلبي ، كيف يتحول فرحنا وتطلعاتنا ورجائنا وإيماننا وخوفنا ممن هو أهل ومحل للطلب والسؤال والرجاء والخوف والخشوع .
الحمد لله رب العالمين ونسأله بحق المصطفى أن يصلي عليهم صلاة نامية زاكية وأن يعجل لوليه الفرج .
|